بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
راقية العلم | ||||
حسين مدية | ||||
AMAL RAHMA | ||||
كريمان | ||||
maria 2013 | ||||
lakhdari t | ||||
لميس | ||||
houria | ||||
fatiha | ||||
تسنيم |
محاضرات في القانون الجنائي العام
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
محاضرات في القانون الجنائي العام
الأحكام العامة لقانون العقوبات والنظرية العامة للجريمة
مقدمــــــة
يعد قانون العقوبات من أهم القوانين التي تستعين بها الدولة في فرض الانضباط والأمن داخل المجتمع، على اعتباره القانون المتضمن لأشد أنواع الجزاءات القانونية وأكثرها لتحقيق فكرة الدرع العام قبل الردع الخاص. وكانت لهذا القانون ذات الأهمية حتى قبل ظهور الدولة، باعتباره من أقدم فروع القانون والذي وجد مع وجود الجماعات البشرية الأولى، وصاحب مختلف مراحل تطورها، وبذلك اتسم في كل مرة بسمات المرحلة التي تطبع النظام المتبع في المجتمع، بجوانبه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حيث في كل مرة كانت تجد فيه الجماعات المكلفة بالحكم – أيا كان نوعها- الوسيلة المثلى لفرض سياستها وأهدافها، وكذا الحفاظ على مصالحها. والسبب الذي جعل هذا الفرع القانوني الهام يحتل مثل هذه المكانة، ومثل هذه الدرجة من الأهمية، راجع بالأساس إلى الجزاء الذي تتضمنه قواعده، باعتبارها جزاءات تصيب الشخص المكلف في حياته أو حريته، وأقلها أن تصيبه في ماله، وبذلك كانت عبارة عن وسائل قهر وإلزام وردع، ووسيلة في يد السلطة الحاكمة في فرض رؤاها في كيفية سير الأفراد والجماعات. وعلى إثر ذلك ضم هذا الفرع القانوني في ثناياه نوعين من الأحكام، أحكام تجريمية وأخرى عقابية، وأن دراسته دراسة وافية تقتضي الإلمام بهما معا، بالنظر للتلازم الموجود بين النوعين أو الشقين من الأحكام. وبهذا فإنه من البديهي أن دراسة القانون الجنائي العام، تقتضي دراسة النظرية العامة للتجريم، والنظرية العامة للجزاء
( الجريمة والجزاء)، وهي المسألة الأولى التي تعطي لقانون العقوبات خاصته الأولى المتمثلة في تضمنه لعلمين، هما علم الإجرام وعلم العقاب، الذي يستدعي في كرة مرة الإلمام بالعلوم الجنائية لفهم أبعاد القانون الجنائي. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، تطبيق القانون الجنائي يستدعي نوعا آخر مخالف تماما للقواعد السابقة، التي تعد في جوهرها قواعد موضوعية، وهذا النوع الآخر هو القواعد الإجرائية، والتي تشكل في ذاتها فرعا قانونيا آخرا، وهو قانون الإجراءات الجنائية مع ما يتسم به من خصوصيات، وما يحكمه من مبادئ، والذي يعد وسيلة تفعيل وتطبيق القانون الجنائي بشقيه العام والخاص، والذي بدونه لا مجال للحديث عن دور وأهمية القسم العام، وهذا الأمر يجعلنا أمام مشكلة أخرى، وهي أن دراسة هذا الفرع القانوني في قسمه العام يقود بداهة لدراسة جوانبه الإجرائية، الأمر الذي يزيد دراستنا تشعبا وتوسعا. ويجعل الدارس والمدرس لهذا الفرع القانوني أمام ثلاثة فروع قانونية، النظرية العامة للجريمة، النظرية العامة للجزاء، وقانون الإجراءات الجزائية. والأكثر من ذلك، الفروع الثلاثة السابقة تستعدي أيضا الإحاطة بفرع قانوني آخر يتعلق بنظرية تنفيذ الجزاء، وهو المحكوم في الجزائر بقانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمساجين، والموضع السليم لدرسته هو النظرية العامة للجزاء الجنائي.
والغريب في الأمر أن دراسة هذه الفروع في مجملها مقررة لطلبة السنة الثانية، في حين القسم الخاص للقانون الجنائي – وفي جزء منه فقط- مقرر لطلبة السنة الثالثة، وهي مسألة نرى وجوب إعادة النظر فيها. غير أن ذلك لا يمنعنا من محاولة تقديم هذه المحاضرات بنوع من الشرح والتفصيل، معتمدين أسلوبا نتجنب من خلاله التفصيل الممل وكذا الاختصار المخل، خدمة وإعانة للطالب في استيعابه لمضامين وأبعاد هذا الفرع القانوني الهام من فروع القانون، ونخصص هذه المطبوعة أولا للنظرية العامة للجريمة والتي لا غنى فيها عن تناول الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، لنتبعها – بعون الله- بمطبوعة أخرى نخصصها للنظرية العامة للجزاء الجنائي، وثالثة نخصصها للشرح أحكام قانون الإجراءات الجزائية، علها تكون عونا مفيدا لطالب السنة الثانية حقوق.
هذا وننبه مسبقا، بأننا سنعمد وفي كثير من الأحيان، إلى الإشارة للخلاف الفقهي الذي قد يشوب فكرة من أفكار هذا القانون في هوامش هذه الدراسة، والتي ننصح في كل مرة الاطلاع عليها وأخذ فكرة عنها، على اعتبار متن الموضوع يخصص فقط لما استقر عليه الفقه في الغالب، أو لما تبناه التشريع المعاصر، مركزين على القانون الجزائري والإشارة في كل مرة تقضي فيه المسألة ذلكن إلى القانون المقارن. كما نشير في آخر الدراسة إلى أهم المراجع المعتمد عليها في إعداد هذه المحاضرات، دون إدراجها في موضعها على النحو الذي يقتضيه إعداد البحوث الأكاديمية، وذلك تقتضيه ظروف أخرى متعلقة بحقوق التأليف، لا إهمالا للجوانب المنهجية والشكلية في إعداد البحوث والدراسات.
وسنتناول هذه الدراسة من خلال بابين أساسيين، نتناول في الأول النظرية العامة للجريمة، لنتناول في الثاني النظرية العامة للمسؤولية الجنائية، على أن نسبق كل ذلك بباب تمهيدي نتناول فيه الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، ونعنونه بمعالم قانون العقوبات. وننبه مسبقا بأن قد يكون هناك اختلال في توازن البابين، على أساس أننا فضلنا تخصيص مطبوعة لنظرية الجزاء، في حين غالبية الفقه يتناولها في إطار نظرية المسؤولية الجنائية، لكن الفائدة الموضوعية المتوخاة من إعداد هذه المطبوعة، تتجاوز بكثير الفائدة المحققة من مراعاة الجوانب الشكلية. هذا ولا يفوتنا أن نتمنى أن تكون هذه المطبوعة عونا علميا لطلبتنا الأعزاء في دراستهم للمادة خلال هذه السنة، وعونا مفيدا في مشاريعهم العلمية المستقبلية.
.
باب تمهيدي
معالم قانـون العقوبات
قانون العقوبات يشمل نوعين من الأحكام الموضوعية، النوع الأول عبارة عن المبادئ والأحكام العامة الحاكمة للتجريم والعقاب، والتي تعد بلورة للنظريات الجنائية التي تبلورت فقهيا وقانونيا على مر عصور طويلة من الزمن، سيما وأن هذا القانون، من أقدم القوانين على وجه الأرض، بل يمكن رده إلى ما قبل ذلك، عند بدأ الخليقة[1]. وهو النوع من الأحكام الذي يطبق على كل الجرائم أيا كان نوعها – على أساس أن قانون العقوبات يعرف التقسيم الثلاثي للجرائم، حيث يقسمها إلى جنايات وجنح ومخالفات-، وأيا كان مرتكبها – حيث أن الجريمة قد تكون مشروعا فرديا يسهر على اقترافه فاعل واحد، أو عدة فاعلين، وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية أو الاشتراك- سواء كان وطنيا أو أجنبيا – تعبيرا عن مبدأ سيادة قانون العقوبات على إقليم الدولة، حيث يطبق على الوطنيين والأجانب على حد سواء-، ويسمى هذا القسم عادة بالنظرية العامة للجريمة، كما يشمل أيضا على الأحكام العامة والمبادئ التي تحكم الجزاء، ويسمى هذا الجزء بالنظرية العامة للجزاء الجنائي. وكلا الشقين يكونان ما يسمى بالقسم العام لقانون العقوبات، الذي يعد من المقررات لبرنامج السنة الثانية في دراستهم لقانون العقوبات.
كما يشتمل على أحكام خاصة، تبين الجرائم بمفرداتها وأركان وظروف وعناصر كل منها، والعقوبة المقررة لها، ويسمى هذا الشق، بقانون العقوبات الخاص، أو القسم الخاص لقانون العقوبات، الذي يعد مقررا على طلبة السنة ثالثة حقوق. على اعتبار أن هذا القسم ما هو إلا تطبيق للنظرية العامة لكل من الجريمة والجزاء. وعلى العموم، الموضوع الرئيسي للقانون الجنائي أو قانون العقوبات، وإن كان الظاهر منه أنه دراسة للنظرية العامة للجريمة، فهو يبحث أساسا على المسؤولية الجنائية على اعتبار الجريمة سلوك يرتكبه شخص يجب أن يكون مسؤولا عن فعله حتى يوقع عليه العقاب. وفي معالجة هذا الموضوع، ظهر خلاف فقهي كبير في الفقه القانوني الجنائي، حيث نجد المدرسة الألمانية اتجهت اتجاها فلسفيا في دراسة الموضوع، حيث يحللون الموضوع على خمسة عناصر أساسية، هي الفعل المتمثل في السلوك، النموذج وهو الوصف القانوني المجرد للتجريم، لا قانونية الفعل وهي مطابقة الفعل للنموذج ومن ثم تقرير الطبيعة اللامشروعة لهذا الفعل، الإثم وهو العلاقة ما بين الفعل والموقف النفسي الآثم، وأخيرا العقاب وهو الثر أو النتيجة أو ثمرة العوامل الأربعة الأولى. أما الفقه الفرنسي ومعه الفقه العربي، له تحليل أكثر بساطة للموضوع، حيث يبدأ تحليل المسؤولية الجنائية من الجريمة إلى المجرم، ومن الشروط الموضوعية للجريمة إلى الشروط الشخصية للجاني، ولكن في الأخير يلتقون مع التحليل الألماني حيث يلتقون في فكرة الجريمة، الإثم، الأهلية للعقاب – أي المسؤولية الجنائية- ثم العقاب نفسه[2]. لكن قبل كل ذلك، وفي البحث عن تحديد معالم قانون العقوبات، شاب الخلاف الفقهي الطويل الذي يطبع هذا الفرع القانوني الهام، حول تسمية القانون في حد ذاته وتحديد مضامينه وأبعاده، وكذا تناول تطوراته وتحديد طبيعته وعلاقته بمختلف فروع القانون الأخرى. لذا فإن دراسة معالم قانون العقوبات، تقتضي منا التعريف به أولا، وتناول محتواه وتحديد طبيعة قواعده، وكذا إبراز علاقته مع مختلف القوانين الأخرى، وتبيان أهدافه. وذلك في فصل أول، نعنونه بماهية قانون العقوبات، لنتناول في فصل ثاني، نشأة وتطور قانون العقوبات، وذلك بتناول تطور الفكر الجنائي بصفة عامة، وقانون العقوبات الجزائري بصفة خاصة.
الفصل الأول
ماهيـــة قانون العقوبات
قانون العقوبات من القوانين التي تجسد بها الدول الحماية القانونية لمصالحها ومصالح المجتمع الأساسية والجوهرية، والتي تكفل الأمن والسكينة والاستقرار لكافة أفراد هذا المجتمع، وإقامة العدل بين أفراده، وهو بذلك ضرورة وحتمية لكل مجتمع أيا كان توجهه وطرق حكمه وتسييره، على اعتبار الجريمة سلوك إنساني ملازم للمجتمعات في كل مكان وفي كل زمان، لذا نجد قانون العقوبات لازم التطور البشري، وعايش تحولاته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، الأمر الذي انعكس على تسميته وتحديد معناه وتبيان محتواه، وحصر العلاقة الموجودة بينه وبين مختلف الفروع القانونية الأخرى، تبعا للتطورات التي عرفها هذا القانون، وهو ما يقتضي منا تناول هذا الفصل ضمن مبحثين، نخصص الأول لمفهوم قانون العقوبات، أين نتناول تحديد معنى مسمياته المختلفة، وحصر مضمونه وتبيان أقسامه، لنخصص الثاني للبحث في طبيعة هذا القانون.
المبحث الأول
مفهوم قانــون العقوبات
يتفق الفقه الجنائي حول مضمون قواعد قانون العقوبات وخصائصه وأهدافه، والتي نتناولها ضمن المبحث الثاني من هذه الدراسة، غير أنه يختلف حول تسميته وتعريفه وعلاقته بمختلف الفروع القانونية الأخرى، وتبعا لذلك حول تحديد طبيعته– وهو موضوع المبحث الثاني-، غير أننا سنقتصر دراستنا في هذا المبحث على مطلبين، خصص الأول لتعريف قانون العقوبات، والثاني لمحتوى هذا القانون.
المطلب الأول
تعريف قانـــون العقوبات
قبل التطرق للتعاريف التي أعطيت لقانون العقوبات، والاختلاف الفقهي الكبير في ذلك، نشير بأن الخلاف انصب أولا حول تحديد تسمية هذا القانون. لكن دون أن ينعكس ذلك على تحديد محتوى ومضمون هذا القانون، وهو الأمر الذي نتبينه من خلال الفروع التالية.
الفرع الأول
في تسمية قانون العقوبات
تطلق في العادة تسمية "قانون العقوبات " على هذا الفرع من فروع القانون[3]، والذي يضم في حقيقته كل من الجرائم والعقوبات المقررة لها، وذلك من قبل تسمية الكل باسم الجزء، أو مثلما نرى، من قبيل تسمية التابع للمتبوع، على اعتبار أن الجريمة سابقة في الوجود على ارتكاب الجريمة، كما أن ارتكاب هذه الجريمة لا يعني بالضرورة توقيع عقوبة، فقد يوقع على شخص تدبير أمني أو احترازي، أو قد لا يطبق الجزاء أصلا، سواء تمثل في عقوبة أو في تدبير أمني، في الحالات التي قد يتوفر فيها للشخص مانع من موانع العقاب، أو سبب من أسباب الإباحة، أو حتى في الحالات التي لا يعرف فيها مرتكب الجريمة أو لا تتمكن فيه النيابة العامة من إثباتها عليه، وهنا تكون الجريمة أمر واقع، في حين شق العقوبة لم يطبق. الأمر الذي يجعلنا نرى بأتن تسمية هذا القانون، بقانون العقوبات تسمية قاصرة على أن تستوعب مضامينه وخصوصياته. خاصة وأنها ركزت على شق العقاب دون شق التجريم، وفي جزء منه دون الآخر – كون الجزاء يشمل العقوبات والتدابير، على نحو ما سنرى-. وهنا جاء اتجاه فقهي، ينادي بإطلاق تسمية " القانون الجزائي" على هذا القانون، ليصبح يشمل شق الجزاء بنوعيه العقوبات والتدابير، لكنه يظل قاصر على أن يشتمل شق التجريم، وهو الأهم في نظرنا. وتبقى تسمية قاصرة عن استيعاب المضمون الكلي لهذا القانون ومحتوياته، لذا يفضل بعض الفقه، تسمية " القانون الجنائي" باعتباره قانون الجرائم، وأن هذا النوع – الجنايات- أهم وأخطر الأنواع، مقارنة بالجنح والمخالفات، غير أننا نرى بأن هذه التسمية تعد أيضا تسمية للكل باسم الجزء، حيث أنها ركزت على جانب التجريم – في حين الأولى ركزت على جانب العقاب- وفي نوع واحد فقط من بين ثلاثة أنواع من الجرائم، وهي الجنايات، مثلما ركزت التسمية الأولى على نوع فقط من أنواع الجزاء، وهي العقوبة، وبالتالي التسمية قاصرة جدا، كونها أهملت نوعين من الجرائم، زيادة على إهمالها لشق العقاب برمته.
غير أن هذه الانتقادات الموجهة لكل تسمية من التسميات الثلاث السابقة، لم تمنع الفقه في عمومه، من استعمالها تبعا لتوجه المشرع في بلده، ووفقا لما ألفه في استعمال المصطلحات، غير أن الإشكال في رأينا يكمن في موقف المشرع نفسه، فإن كان من الجائز أن نستعمل مصطلح من المصطلحات الثلاثة السابقة، فعل الأقل أن يعممه المشرع، غير أننا نرى بأن غالبية التشريعات، بما فيها التشريع الجزائري، تسمي القانون الموضوعي، بقانون العقوبات، بينما تميل لشق الجزاء بخصوص الإجراءات، حيث نجد المشرع الجزائري، يطلق تسمية " قانون العقوبات" على القانون موضوع دراستنا في هذا السداسي، ومصطلح " قانون الإجراءات الجزائية" بخصوص الشق الإجرائي موضوع دراستنا في السداسي الثاني من السنة الجامعية، وهنا يثار التساؤل عن المغزى من عدم توحيد المصطلحات، وإن كانت بعض التشريعات تطلق عليه مصطلح " الإجراءات الجنائية" نسبة للجنايات.
الفرع الثاني
تعريف قانون العقوبات
يعرفه البعض[4]، بأنه: " مجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من أو يقابلها من عقوبات أو تدابير أمن، إلى جانب القواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير"، بينما يرى البعض[5]، أنه :" مجموعة القواعد القانونية التي تحدد رد الفعل الاجتماعي ضد الجرائم، وتترجم مجموعة الحلول الوضعية للظاهرة الإجرامية". في حين يرى آخرون، أن قانون العقوبات يمعناه الواسع، مجموعة القواعد التي تحدد التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا الفعل، سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن، كما يشمل أيضا القواعد الإجرائية التي تنظم الدعوى الجنائية. وبذلك يشمل المعنى الواسع كل من القواعد الموضوعية التي تجرم وتعاقب على الأفعال، سواء تمثلت في قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له، وكذا القواعد الإجرائية المتمثلة في مجموعة القواعد الواجب اتخاذها بخصوص الدعوى العمومية، وصدور الأحكام والطعن فيها، وحتى تنفيذ العقوبة التي ينظمها قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين[6]. بينما المعنى الضيق لقانون العقوبات، فيطلق مرادفا لتقنين العقوبات أو مجموعة القواعد الموضوعية فقط الخاصة بالتجريم والعقاب. والتي تعني فقط الدور المزدوج لهذا لقواعد هذا الشق، حيث تبين من جهة، الأفعال والتصرفات المجرمة، ومن جهة ثانية، ردة الفعل الاجتماعي إزاءها أو في مواجهتها، سواء كان ذلك بعقوبة أو تدبير من تدابير الأمن أو التدابير الاحترازية[7].
ويرى البعض، بأن الدور المزدوج لقواعد قانون العقوبات، هي التي تبين الاختلاف الفقهي والتشريعي الحاصل حول تسمية هذا القانون، وهي التسميات التي تعبر فعلا عن ماهية هذا القانون، حيث يمكن القول بأن الجريمة أيا كان نوعها والجزاء أيا كان نوعه، وجهان لعملة واحدة، فالتعبير بالجريمة يعني أنه هناك جزاء مقابل، والتعبير بالجزاء يعني أن هناك جريمة قد وقعت، حيث لا جريمة دون جزاء، ولا جزاء دون وقوع جريمة، من حيث المبدأ. غير أننا نفضل تسمية القانون الجنائي – والدليل على ذلك تسمية المادة التي نحن بصدد دراستها – على تسمية قانون العقوبات، حيث بإمكان التسمية الأولى أن تشمل الشق الإجرائي بالإضافة إلى الشق الموضوعي، في حين أن تسمية قانون العقوبات، في رأينا تشمل الشق الموضوعي فقط دون الشق الإجرائي. وبالتالي يمكننا القول بأن مسألة التسمية تقودنا لدراسة محتوى هذا القانون، وهو موضوع دراستنا في الفرع الموالي.
المطلب الثاني
محتوى القانون الجنائي
يجمع الفقه في عمومه، على أنه لقانون العقوبات نوعين من المحتوى، محتوى قانوني وهو أساس والهدف المباشر لهذا الفرع القانوني، ومحتوى علمي وهو محتوى غير مباشر منه تستمد القواعد القانونية المنظمة لشقي التجريم والعقاب. وهو ما نبينه باختصار في الفرعين التاليتين.
الفرع الأول
المحتوى القانوني للقانون الجنائي
تكمن مهمة قانون العقوبات بالدرجة الأولى، في تبيان الأفعال التي يرى المشرع أنها تضر بالمصلحة العامة وبالنظام العام القائم[8]، ويضع قائمة بها، وهي التي تشكل بذاتها فرعا من فروع القانون الجنائي، ويسمى ب:" القانون الجنائي الخاص"، أو القسم الخاص من القانون الجنائي أو قانون العقوبات، وهي القسم الذي يبين كل جريمة على حدا وما يميزها من أركان وظروف وعناصر، وما يتقرر لها من عقوبات
أو تدابير احترازية أو أمنية. وإلى جانب القواعد السابقة، هناك مجموعة أخرى من القواعد التي تحدد القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القانون الجنائي في مجمله، من أركان عامة للجريمة، وقواعد المسؤولية الجنائية وموانعها، وتصنيف الجرائم، وأسباب الإباحة، وموانع العقاب... وهي مجموعة القواعد التي تشكل فرع من فروع القانون الجنائي، المسمى بالقسم العام، أو القانون الجنائي العام، الذي يعد موضوع دراستنا في هذا البحث. غير أن تطبيق الفرعين السابقين من فروع القانون الجنائي، يقتضي إجراءات معينة بموجبها تتدخل الدولة عن طريق أجهزتها من وقت ارتكاب الجريمة لغاية توقيع العقوبة على مقترفها، وتبين ماهية هذه الأجهزة، وطرق تدخلها وكيفيات ذلك، وهو القسم المسمى بقانون الإجراءات الجزائية[9].
وبالتالي يتحدد المحتوى القانوني للقانون الجنائي، أو قانون العقوبات، بثلاثة فروع قانونية فرعية يتضمنها هذا القانون، وهي القسم العام، أو القانون الجنائي العام[10]، والقانون الجنائي الخاص[11] – المقرر في برنامج السنة الثالثة حقوق إلى جانب علم الإجرام- وقانون الإجراءات الجزائية أو الجنائية[12]، المقرر في السداسي الثاني من السنة الثانية حقوق. وهي أقسام وفروع تتكامل فيما بينها، لتشكل في الأخير الجزء الكبير من السياسة الجنائية والعقابية للدولة، من حيث تبيانها للتجريم وما قرر من عقوبات، والأحكام والمبادئ العامة التي تحكم العمليتين – التجريم والعقاب-، بالإضافة إلى قواعد إجرائية تنقل الشق السابق من حالة السكون إلى حالة الحركة، أو من الحالة النظرية المجردة، إلى الحالة الواقعية العملية. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، يتحدد المضمون القانوني لقانون العقوبات، في كونه وبالإضافة إلى احتواءه لقسم عام وآخر خاص، أنه هناك قوانين عقوبات تكميلية وأخرى خاصة.
فقانون العقوبات التكميلي، يجد علته في كون القسم الخاص من قانون العقوبات لا يتضمن كل الجرائم التي قررها المشرع، فهناك عدد كبير من الجرائم نصت عليها قوانين أخرى مستقلة، مثل قانون المنافسة والأسعار وقانون الصحة والقانون الجمركي ...وهي مجموعة القوانين التي يطلق عليها مصطلح قانون العقوبات التكميلي أو القوانين الملحقة بقانون العقوبات، مما يستتبع بالضرورة خضوعها للأحكام العامة المتضمنة بالقسم العام لقانون العقوبات. ولجوء المشرع إلى هذه الطريقة المتمثلة في التجريم والعقاب بموجب نصوص قانونية مستقلة، يجد أساسه في عدم قدرته على حصر كل الجرائم في موضوع واحد هو قانون العقوبات، خاصة إذا كانت هذه الجرائم تحمي مصالح متغيرة أو طارئة تخضع للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة لذلك، في حين أن قانون العقوبات يتسم بالاستقرار النسبي، لذا فهو يجرم في العادة الأفعال الشائنة والمستهجنة في المجتمع في كل وقت من الأوقات ولا يتدخل إلا في حال تغيرات اقتصادية
أو اجتماعية أو علمية حديثة توجب إلغاء بعض الجرائم أو إدراج البعض الآخر.
وأما قوانين العقوبات الخاصة، فهي حسب الفقه طائفة ثالثة من الجرائم، التي يتم النص عليها في قوانين خاصة، اصطلح على تسميتها بقوانين العقوبات الخاصة، منها قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات الاقتصادي وقانون العقوبات التجاري. وأصبحنا نسمع بقانون العقوبات الإداري وقانون الجنائي الدستوري...، وهي كلها قوانين تحمي مصالح تتميز بطابع خاص يبرر إخضاعها لقواعد قانونية خاصة، سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية الإجرائية، كونها تخضع لبعض الأحكام التي قد تختلف كلية
أو جزئيا عن الأحكام العامة الموضوعية والإجرائية، لكن العلاقة بينهما تظل قائمة ويجب الرجوع للأحكام العامة في كل حالة لم يرد بشأنها نص في هذه القوانين الجنائية الخاصة، تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام. ولتجنب الخلط بين القوانين الجنائية الخاصة والقوانين التكميلية لقانون العقوبات العام، يدرج الفقه الفرقين الأساسيين التاليين:
1- القوانين المكملة لقانون العقوبات، تحمي مصالح من ذات نوع وطبيعة المصالح المحمية بموجب القسم الخاص من قانون العقوبات، مما لا يجيز الخروج بشأنها عن الأحكام العامة المنصوص عليها بالقسم العام لقانون العقوبات، في حين تحمي قوانين العقوبات الخاصة مصالح وحقوق تتميز بطبيعة خاصة تستوجب الخروج نوعا ما ( بصفة كلية أو بصفة جزئية) عن الأحكام العامة لقانون العقوبات سواء في قسمه الموضوعي أو في قسمه الإجرائي .
2- الجرائم المنصوص عليها في قوانين العقوبات التكميلية، تخضع بحسب الأصل للأحكام العامة الواردة بالقسم العام لقانون العقوبات، إلا إذا نص فيها على ما يخالف ذلك، أما قوانين العقوبات الخاصة فتضم أحكامها الموضوعية والإجرائية الخاصة بها، ولا يرجع فيها إلى الأحكام العامة إلا في الحالات التي لا يرد فيها نص خاص.
الفرع الثاني
المحتوى العلمي للقانون الجنائي
حتى يستطيع القانون الجنائي أن يحقق أهدافه على أتم وجه، يجب أن يستعين بالعلوم الحديثة وما تقدمه له من مساعدة مبنية أساسا على معطيات علمية، من أهم هذه العلوم المسماة بالعلوم الجنائية المساعدة، علم التحقيق الجنائي وعلم الإجرام، اللذان يعدان ركائز العلوم الجنائية أو السياسة الجنائية بصفة عامة. وإن كان يستفيد القانون الجنائي أيضا ببعض العلوم الأخرى حتى وإن كانت من طبيعة غير جنائية، كعلم النفس وعلم الاجتماع، والعلوم الاقتصادية وغيرها من العلوم الإنسانية، خاصة وأن الجريمة بدورها ظاهرة إنسانية، فهمها يقتضي فهم السلوك الإنساني ككل، وذلك لا يتسنى إلا بالاستعانة بكل هذه العلوم في رسم السياسة الجنائية. وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية. والتي لا نقصد بها علاقة قانون العقوبات بباقي فروع القانون الأخرى، التي سنتناولها في نقطة مستقلة، وإنما هي علوم متضمنة بطريقة غير مباشرة في إطار هذا القانون ذاته. والمسماة بالعلوم الجنائية نسبة لهذا الفرع القانوني، ويقصد بها تلك العلوم التي تبحث في الجريمة والمجرم، من حيث تحديد أسباب الإجرام وصفات المجرم ووسائل معالجته وتقويمه، وأهداف العقوبة وأغراضها، وبالتالي نقطة الاشتراك بينها وبين القانون الجنائي، هي الاهتمام المشترك بالجريمة والمجرم والعقوبة، والأهم مكافحة الجريمة، وهي المحاور الأساسية للقانون الجنائي وسبب وجوده. غير أن وسيلة القانون الجنائي في مكافحة الجريمة، هي تحديد الأعمال المجرمة وتقدير الجزاء المناسب لها، بينما وسيلة العلوم الجنائية، هي البحث العلمي القائم على الدراسات التجريبية القائمة على الملاحظة واستخلاص النظريات والقوانين العلمية التي تحكمها، والتي تجعل من المشرع الجنائي يضع النصوص القانونية وفق سياسة جنائية معينة التي تعد محصلة النتائج العلمية التي توصلت إليها العلوم الجنائية[13]. وسنبين أهم هذه العلوم في النقاط الثلاث التالية.
أولا: علـــم الإجرام
علم الإجرام، هو العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية، ويتناول بالتحليل والبحث أسباب الجريمة ودوافعها المختلفة، والذي يشمل أيضا ثلاثة فروع من العلوم، هي علم طبائع المجرم، ويتناول بالدراسة أسباب الجريمة الكامنة في تكوين الجاني الخلقي والجسدي، وعلم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يهتم بالبحث في الأسباب النفسية الدافعة لارتكاب الجرائم، وتطور الفكرة الإجرامية في نفسية الجاني، بالإضافة إلى علم الاجتماع الجنائي، وهو العلم الذي يركز على أسباب الجريمة الراجعة إلى المجتمع والظروف الاجتماعية المحيطة بالجاني، بالإضافة إلى علم آخر تفرع عن علم الإجرام، وهو علم الإجرام الإكلينيكي، الذي يركز على دراسة كيفية فحص الجاني جسديا ونفسيا وعقليا، للتعرف على أسباب انحرافه[14]. خاصة وأن علماء الإجرام لهم معاييرهم لاكتشاف تصرفات وسلوكات الأفراد، ودراسة الجريمة دراسة علمية من حيث أسبابها وطرق مكافحتها، ومن هنا كانت العلاقة والاستفادة بين القانون الجنائي وعلم الإجرام علاقة تعاونية أو تبادلية، حيث أن المعطيات الأولية، من تعريف للجريمة، وتقديم المادة البشرية الأساسية موضوع الدراسة والبحث والتحليل، ورسم القيود والحدود التي يتعين على علم الإجرام عدم تعديها في دراسته للمجرم، ومنعهم من التدخل في الشؤون القانونية وخاصة الجنائية[15].
ثانيا: علــــم العقاب
علم العقاب، هو العلم الذي يهتم بدراسة أهداف العقوبة والتدابير وتحديد أغراضها الاجتماعية، ودراسة القواعد والأساليب الكفيلة بتحقيق أغراضها، ودراسة أساليب تقويم الجناة أثناء فترة تنفيذ العقوبة
أو التدبير، كما وهو العلم الذي يعني مجموعة القواعد التي تحدد الأساليب التي تتبع في تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية، حتى تحقق الغرض الذي يستهدفه المجتمع منها، في إطار الفلسفة التي يتبناها ويعمل في إطارها.
ثالثا: علــم (التحقيق الجنائي) البوليس الفني
وهو العلم الذي يهتم بدراسة تحديد الجاني والتعرف على مرتكب الجريمة وكيفية وقوعها، بدءا من دراسة البصمات، وكيفية رفع آثار الجريمة، وفحصها وتحليلها... وهو علم شهد تطورات مذهلة في السنوات الأخيرة[16]، حيث استفاد كثيرا بالتطورات العلمية والتكنولوجية التي وفرتها للبحث الجنائي، سواء فيما يتعلق بدراسة مسرح الجريمة، أو التعرف على الجناة، من وجود لفكرة البصمات الوراثية، والأدلة الإلكترونية والمعلوماتية والبيولوجية...وعلم التحقيق الجنائي يضم في الواقع العديد من التخصصات التي تتعاون في مجملها لأجل اكتشاف الجريمة ومرتكبيها، ففي إطار هذا العلم، هناك " الطب الشرعي" الذي ساعد على اكتشاف أسباب الوفاة مثلا ووقتها، ومدى وقوع الاعتداء من عدمه، وطريقة هذا الاعتداء وما إن كان عن طريق العنف أو غيره، وأي وسيلة كانت سببا في إحداث الجريمة، والتعرف حتى على المجني عليهم والجناة على حد سواء، سيما في ظل استفادة هذا العلم من التطورات العلمية الحاصلة في الثورة البيولوجية والمعلوماتية. كما يوجد " علم السموم" الذي يساعد على التحقق من أن مادة معينة أو مخدر ما كان السبب في حدوث الجريمة، وتحليل المواد المخدرة في جرائم المخدرات، كما يوجد ما يسمى بعلم البصمات[17]، وما يسمى " بالشرطة العلمية" وهي كلها علوم تسهل من مهام رجال البحث والتحري، والقاضي في إصدار حكمه. كما يستعين القانون الجنائي بالكثير من العلوم الأخرى، مثل علم الاجتماع القانوني، الذي يهدف إلى دراسة الواقع الاجتماعي للقانون منذ نشأته مرورا بمختلف مراحل تطوره، وكذا العوامل والظروف المحيطة بإصدار التشريعات العقابية ودراسة آثارها الاجتماعية، والعوامل الاجتماعية التي تؤثر في إصدار القوانين وعمل أجهزة العدالة، وهو بذلك يلعب دورا بارزا في تقديم الحقائق الاجتماعية بطريقة موضوعية للمشرع لكي يصدر بناء عليها قوانينه، مما يكفل علاقة الصلة بين القانون والمجتمع الذي نشأ لتنظيمه، وكذا علم الإحصاء، الذي يعتني بإعطاء حقائق رقمية للمتخصصين في التشريع حتى يكنوا على دراية واقعية بكل ما يتصل بالجريمة والمجرمين، من عدد الجرائم والمجرمين أو دراسة نوعية معينة منهم، ومدى انتشار الجريمة في زمان ما أو مكان ما ... خاصة وأن الدراسات الإحصائية من أفضل السبل للحكم على نجاح السياسة الجنائية.
_________________ ------ ____________
لا تنسونا بالدعاء. بارك الله فيكم
مقدمــــــة
يعد قانون العقوبات من أهم القوانين التي تستعين بها الدولة في فرض الانضباط والأمن داخل المجتمع، على اعتباره القانون المتضمن لأشد أنواع الجزاءات القانونية وأكثرها لتحقيق فكرة الدرع العام قبل الردع الخاص. وكانت لهذا القانون ذات الأهمية حتى قبل ظهور الدولة، باعتباره من أقدم فروع القانون والذي وجد مع وجود الجماعات البشرية الأولى، وصاحب مختلف مراحل تطورها، وبذلك اتسم في كل مرة بسمات المرحلة التي تطبع النظام المتبع في المجتمع، بجوانبه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حيث في كل مرة كانت تجد فيه الجماعات المكلفة بالحكم – أيا كان نوعها- الوسيلة المثلى لفرض سياستها وأهدافها، وكذا الحفاظ على مصالحها. والسبب الذي جعل هذا الفرع القانوني الهام يحتل مثل هذه المكانة، ومثل هذه الدرجة من الأهمية، راجع بالأساس إلى الجزاء الذي تتضمنه قواعده، باعتبارها جزاءات تصيب الشخص المكلف في حياته أو حريته، وأقلها أن تصيبه في ماله، وبذلك كانت عبارة عن وسائل قهر وإلزام وردع، ووسيلة في يد السلطة الحاكمة في فرض رؤاها في كيفية سير الأفراد والجماعات. وعلى إثر ذلك ضم هذا الفرع القانوني في ثناياه نوعين من الأحكام، أحكام تجريمية وأخرى عقابية، وأن دراسته دراسة وافية تقتضي الإلمام بهما معا، بالنظر للتلازم الموجود بين النوعين أو الشقين من الأحكام. وبهذا فإنه من البديهي أن دراسة القانون الجنائي العام، تقتضي دراسة النظرية العامة للتجريم، والنظرية العامة للجزاء
( الجريمة والجزاء)، وهي المسألة الأولى التي تعطي لقانون العقوبات خاصته الأولى المتمثلة في تضمنه لعلمين، هما علم الإجرام وعلم العقاب، الذي يستدعي في كرة مرة الإلمام بالعلوم الجنائية لفهم أبعاد القانون الجنائي. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، تطبيق القانون الجنائي يستدعي نوعا آخر مخالف تماما للقواعد السابقة، التي تعد في جوهرها قواعد موضوعية، وهذا النوع الآخر هو القواعد الإجرائية، والتي تشكل في ذاتها فرعا قانونيا آخرا، وهو قانون الإجراءات الجنائية مع ما يتسم به من خصوصيات، وما يحكمه من مبادئ، والذي يعد وسيلة تفعيل وتطبيق القانون الجنائي بشقيه العام والخاص، والذي بدونه لا مجال للحديث عن دور وأهمية القسم العام، وهذا الأمر يجعلنا أمام مشكلة أخرى، وهي أن دراسة هذا الفرع القانوني في قسمه العام يقود بداهة لدراسة جوانبه الإجرائية، الأمر الذي يزيد دراستنا تشعبا وتوسعا. ويجعل الدارس والمدرس لهذا الفرع القانوني أمام ثلاثة فروع قانونية، النظرية العامة للجريمة، النظرية العامة للجزاء، وقانون الإجراءات الجزائية. والأكثر من ذلك، الفروع الثلاثة السابقة تستعدي أيضا الإحاطة بفرع قانوني آخر يتعلق بنظرية تنفيذ الجزاء، وهو المحكوم في الجزائر بقانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمساجين، والموضع السليم لدرسته هو النظرية العامة للجزاء الجنائي.
والغريب في الأمر أن دراسة هذه الفروع في مجملها مقررة لطلبة السنة الثانية، في حين القسم الخاص للقانون الجنائي – وفي جزء منه فقط- مقرر لطلبة السنة الثالثة، وهي مسألة نرى وجوب إعادة النظر فيها. غير أن ذلك لا يمنعنا من محاولة تقديم هذه المحاضرات بنوع من الشرح والتفصيل، معتمدين أسلوبا نتجنب من خلاله التفصيل الممل وكذا الاختصار المخل، خدمة وإعانة للطالب في استيعابه لمضامين وأبعاد هذا الفرع القانوني الهام من فروع القانون، ونخصص هذه المطبوعة أولا للنظرية العامة للجريمة والتي لا غنى فيها عن تناول الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، لنتبعها – بعون الله- بمطبوعة أخرى نخصصها للنظرية العامة للجزاء الجنائي، وثالثة نخصصها للشرح أحكام قانون الإجراءات الجزائية، علها تكون عونا مفيدا لطالب السنة الثانية حقوق.
هذا وننبه مسبقا، بأننا سنعمد وفي كثير من الأحيان، إلى الإشارة للخلاف الفقهي الذي قد يشوب فكرة من أفكار هذا القانون في هوامش هذه الدراسة، والتي ننصح في كل مرة الاطلاع عليها وأخذ فكرة عنها، على اعتبار متن الموضوع يخصص فقط لما استقر عليه الفقه في الغالب، أو لما تبناه التشريع المعاصر، مركزين على القانون الجزائري والإشارة في كل مرة تقضي فيه المسألة ذلكن إلى القانون المقارن. كما نشير في آخر الدراسة إلى أهم المراجع المعتمد عليها في إعداد هذه المحاضرات، دون إدراجها في موضعها على النحو الذي يقتضيه إعداد البحوث الأكاديمية، وذلك تقتضيه ظروف أخرى متعلقة بحقوق التأليف، لا إهمالا للجوانب المنهجية والشكلية في إعداد البحوث والدراسات.
وسنتناول هذه الدراسة من خلال بابين أساسيين، نتناول في الأول النظرية العامة للجريمة، لنتناول في الثاني النظرية العامة للمسؤولية الجنائية، على أن نسبق كل ذلك بباب تمهيدي نتناول فيه الأحكام العامة لقانون العقوبات ذاته، ونعنونه بمعالم قانون العقوبات. وننبه مسبقا بأن قد يكون هناك اختلال في توازن البابين، على أساس أننا فضلنا تخصيص مطبوعة لنظرية الجزاء، في حين غالبية الفقه يتناولها في إطار نظرية المسؤولية الجنائية، لكن الفائدة الموضوعية المتوخاة من إعداد هذه المطبوعة، تتجاوز بكثير الفائدة المحققة من مراعاة الجوانب الشكلية. هذا ولا يفوتنا أن نتمنى أن تكون هذه المطبوعة عونا علميا لطلبتنا الأعزاء في دراستهم للمادة خلال هذه السنة، وعونا مفيدا في مشاريعهم العلمية المستقبلية.
.
باب تمهيدي
معالم قانـون العقوبات
قانون العقوبات يشمل نوعين من الأحكام الموضوعية، النوع الأول عبارة عن المبادئ والأحكام العامة الحاكمة للتجريم والعقاب، والتي تعد بلورة للنظريات الجنائية التي تبلورت فقهيا وقانونيا على مر عصور طويلة من الزمن، سيما وأن هذا القانون، من أقدم القوانين على وجه الأرض، بل يمكن رده إلى ما قبل ذلك، عند بدأ الخليقة[1]. وهو النوع من الأحكام الذي يطبق على كل الجرائم أيا كان نوعها – على أساس أن قانون العقوبات يعرف التقسيم الثلاثي للجرائم، حيث يقسمها إلى جنايات وجنح ومخالفات-، وأيا كان مرتكبها – حيث أن الجريمة قد تكون مشروعا فرديا يسهر على اقترافه فاعل واحد، أو عدة فاعلين، وهو ما يعرف بالمسؤولية الجنائية أو الاشتراك- سواء كان وطنيا أو أجنبيا – تعبيرا عن مبدأ سيادة قانون العقوبات على إقليم الدولة، حيث يطبق على الوطنيين والأجانب على حد سواء-، ويسمى هذا القسم عادة بالنظرية العامة للجريمة، كما يشمل أيضا على الأحكام العامة والمبادئ التي تحكم الجزاء، ويسمى هذا الجزء بالنظرية العامة للجزاء الجنائي. وكلا الشقين يكونان ما يسمى بالقسم العام لقانون العقوبات، الذي يعد من المقررات لبرنامج السنة الثانية في دراستهم لقانون العقوبات.
كما يشتمل على أحكام خاصة، تبين الجرائم بمفرداتها وأركان وظروف وعناصر كل منها، والعقوبة المقررة لها، ويسمى هذا الشق، بقانون العقوبات الخاص، أو القسم الخاص لقانون العقوبات، الذي يعد مقررا على طلبة السنة ثالثة حقوق. على اعتبار أن هذا القسم ما هو إلا تطبيق للنظرية العامة لكل من الجريمة والجزاء. وعلى العموم، الموضوع الرئيسي للقانون الجنائي أو قانون العقوبات، وإن كان الظاهر منه أنه دراسة للنظرية العامة للجريمة، فهو يبحث أساسا على المسؤولية الجنائية على اعتبار الجريمة سلوك يرتكبه شخص يجب أن يكون مسؤولا عن فعله حتى يوقع عليه العقاب. وفي معالجة هذا الموضوع، ظهر خلاف فقهي كبير في الفقه القانوني الجنائي، حيث نجد المدرسة الألمانية اتجهت اتجاها فلسفيا في دراسة الموضوع، حيث يحللون الموضوع على خمسة عناصر أساسية، هي الفعل المتمثل في السلوك، النموذج وهو الوصف القانوني المجرد للتجريم، لا قانونية الفعل وهي مطابقة الفعل للنموذج ومن ثم تقرير الطبيعة اللامشروعة لهذا الفعل، الإثم وهو العلاقة ما بين الفعل والموقف النفسي الآثم، وأخيرا العقاب وهو الثر أو النتيجة أو ثمرة العوامل الأربعة الأولى. أما الفقه الفرنسي ومعه الفقه العربي، له تحليل أكثر بساطة للموضوع، حيث يبدأ تحليل المسؤولية الجنائية من الجريمة إلى المجرم، ومن الشروط الموضوعية للجريمة إلى الشروط الشخصية للجاني، ولكن في الأخير يلتقون مع التحليل الألماني حيث يلتقون في فكرة الجريمة، الإثم، الأهلية للعقاب – أي المسؤولية الجنائية- ثم العقاب نفسه[2]. لكن قبل كل ذلك، وفي البحث عن تحديد معالم قانون العقوبات، شاب الخلاف الفقهي الطويل الذي يطبع هذا الفرع القانوني الهام، حول تسمية القانون في حد ذاته وتحديد مضامينه وأبعاده، وكذا تناول تطوراته وتحديد طبيعته وعلاقته بمختلف فروع القانون الأخرى. لذا فإن دراسة معالم قانون العقوبات، تقتضي منا التعريف به أولا، وتناول محتواه وتحديد طبيعة قواعده، وكذا إبراز علاقته مع مختلف القوانين الأخرى، وتبيان أهدافه. وذلك في فصل أول، نعنونه بماهية قانون العقوبات، لنتناول في فصل ثاني، نشأة وتطور قانون العقوبات، وذلك بتناول تطور الفكر الجنائي بصفة عامة، وقانون العقوبات الجزائري بصفة خاصة.
الفصل الأول
ماهيـــة قانون العقوبات
قانون العقوبات من القوانين التي تجسد بها الدول الحماية القانونية لمصالحها ومصالح المجتمع الأساسية والجوهرية، والتي تكفل الأمن والسكينة والاستقرار لكافة أفراد هذا المجتمع، وإقامة العدل بين أفراده، وهو بذلك ضرورة وحتمية لكل مجتمع أيا كان توجهه وطرق حكمه وتسييره، على اعتبار الجريمة سلوك إنساني ملازم للمجتمعات في كل مكان وفي كل زمان، لذا نجد قانون العقوبات لازم التطور البشري، وعايش تحولاته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، الأمر الذي انعكس على تسميته وتحديد معناه وتبيان محتواه، وحصر العلاقة الموجودة بينه وبين مختلف الفروع القانونية الأخرى، تبعا للتطورات التي عرفها هذا القانون، وهو ما يقتضي منا تناول هذا الفصل ضمن مبحثين، نخصص الأول لمفهوم قانون العقوبات، أين نتناول تحديد معنى مسمياته المختلفة، وحصر مضمونه وتبيان أقسامه، لنخصص الثاني للبحث في طبيعة هذا القانون.
المبحث الأول
مفهوم قانــون العقوبات
يتفق الفقه الجنائي حول مضمون قواعد قانون العقوبات وخصائصه وأهدافه، والتي نتناولها ضمن المبحث الثاني من هذه الدراسة، غير أنه يختلف حول تسميته وتعريفه وعلاقته بمختلف الفروع القانونية الأخرى، وتبعا لذلك حول تحديد طبيعته– وهو موضوع المبحث الثاني-، غير أننا سنقتصر دراستنا في هذا المبحث على مطلبين، خصص الأول لتعريف قانون العقوبات، والثاني لمحتوى هذا القانون.
المطلب الأول
تعريف قانـــون العقوبات
قبل التطرق للتعاريف التي أعطيت لقانون العقوبات، والاختلاف الفقهي الكبير في ذلك، نشير بأن الخلاف انصب أولا حول تحديد تسمية هذا القانون. لكن دون أن ينعكس ذلك على تحديد محتوى ومضمون هذا القانون، وهو الأمر الذي نتبينه من خلال الفروع التالية.
الفرع الأول
في تسمية قانون العقوبات
تطلق في العادة تسمية "قانون العقوبات " على هذا الفرع من فروع القانون[3]، والذي يضم في حقيقته كل من الجرائم والعقوبات المقررة لها، وذلك من قبل تسمية الكل باسم الجزء، أو مثلما نرى، من قبيل تسمية التابع للمتبوع، على اعتبار أن الجريمة سابقة في الوجود على ارتكاب الجريمة، كما أن ارتكاب هذه الجريمة لا يعني بالضرورة توقيع عقوبة، فقد يوقع على شخص تدبير أمني أو احترازي، أو قد لا يطبق الجزاء أصلا، سواء تمثل في عقوبة أو في تدبير أمني، في الحالات التي قد يتوفر فيها للشخص مانع من موانع العقاب، أو سبب من أسباب الإباحة، أو حتى في الحالات التي لا يعرف فيها مرتكب الجريمة أو لا تتمكن فيه النيابة العامة من إثباتها عليه، وهنا تكون الجريمة أمر واقع، في حين شق العقوبة لم يطبق. الأمر الذي يجعلنا نرى بأتن تسمية هذا القانون، بقانون العقوبات تسمية قاصرة على أن تستوعب مضامينه وخصوصياته. خاصة وأنها ركزت على شق العقاب دون شق التجريم، وفي جزء منه دون الآخر – كون الجزاء يشمل العقوبات والتدابير، على نحو ما سنرى-. وهنا جاء اتجاه فقهي، ينادي بإطلاق تسمية " القانون الجزائي" على هذا القانون، ليصبح يشمل شق الجزاء بنوعيه العقوبات والتدابير، لكنه يظل قاصر على أن يشتمل شق التجريم، وهو الأهم في نظرنا. وتبقى تسمية قاصرة عن استيعاب المضمون الكلي لهذا القانون ومحتوياته، لذا يفضل بعض الفقه، تسمية " القانون الجنائي" باعتباره قانون الجرائم، وأن هذا النوع – الجنايات- أهم وأخطر الأنواع، مقارنة بالجنح والمخالفات، غير أننا نرى بأن هذه التسمية تعد أيضا تسمية للكل باسم الجزء، حيث أنها ركزت على جانب التجريم – في حين الأولى ركزت على جانب العقاب- وفي نوع واحد فقط من بين ثلاثة أنواع من الجرائم، وهي الجنايات، مثلما ركزت التسمية الأولى على نوع فقط من أنواع الجزاء، وهي العقوبة، وبالتالي التسمية قاصرة جدا، كونها أهملت نوعين من الجرائم، زيادة على إهمالها لشق العقاب برمته.
غير أن هذه الانتقادات الموجهة لكل تسمية من التسميات الثلاث السابقة، لم تمنع الفقه في عمومه، من استعمالها تبعا لتوجه المشرع في بلده، ووفقا لما ألفه في استعمال المصطلحات، غير أن الإشكال في رأينا يكمن في موقف المشرع نفسه، فإن كان من الجائز أن نستعمل مصطلح من المصطلحات الثلاثة السابقة، فعل الأقل أن يعممه المشرع، غير أننا نرى بأن غالبية التشريعات، بما فيها التشريع الجزائري، تسمي القانون الموضوعي، بقانون العقوبات، بينما تميل لشق الجزاء بخصوص الإجراءات، حيث نجد المشرع الجزائري، يطلق تسمية " قانون العقوبات" على القانون موضوع دراستنا في هذا السداسي، ومصطلح " قانون الإجراءات الجزائية" بخصوص الشق الإجرائي موضوع دراستنا في السداسي الثاني من السنة الجامعية، وهنا يثار التساؤل عن المغزى من عدم توحيد المصطلحات، وإن كانت بعض التشريعات تطلق عليه مصطلح " الإجراءات الجنائية" نسبة للجنايات.
الفرع الثاني
تعريف قانون العقوبات
يعرفه البعض[4]، بأنه: " مجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من أو يقابلها من عقوبات أو تدابير أمن، إلى جانب القواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير"، بينما يرى البعض[5]، أنه :" مجموعة القواعد القانونية التي تحدد رد الفعل الاجتماعي ضد الجرائم، وتترجم مجموعة الحلول الوضعية للظاهرة الإجرامية". في حين يرى آخرون، أن قانون العقوبات يمعناه الواسع، مجموعة القواعد التي تحدد التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا الفعل، سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن، كما يشمل أيضا القواعد الإجرائية التي تنظم الدعوى الجنائية. وبذلك يشمل المعنى الواسع كل من القواعد الموضوعية التي تجرم وتعاقب على الأفعال، سواء تمثلت في قانون العقوبات أو في القوانين المكملة له، وكذا القواعد الإجرائية المتمثلة في مجموعة القواعد الواجب اتخاذها بخصوص الدعوى العمومية، وصدور الأحكام والطعن فيها، وحتى تنفيذ العقوبة التي ينظمها قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين[6]. بينما المعنى الضيق لقانون العقوبات، فيطلق مرادفا لتقنين العقوبات أو مجموعة القواعد الموضوعية فقط الخاصة بالتجريم والعقاب. والتي تعني فقط الدور المزدوج لهذا لقواعد هذا الشق، حيث تبين من جهة، الأفعال والتصرفات المجرمة، ومن جهة ثانية، ردة الفعل الاجتماعي إزاءها أو في مواجهتها، سواء كان ذلك بعقوبة أو تدبير من تدابير الأمن أو التدابير الاحترازية[7].
ويرى البعض، بأن الدور المزدوج لقواعد قانون العقوبات، هي التي تبين الاختلاف الفقهي والتشريعي الحاصل حول تسمية هذا القانون، وهي التسميات التي تعبر فعلا عن ماهية هذا القانون، حيث يمكن القول بأن الجريمة أيا كان نوعها والجزاء أيا كان نوعه، وجهان لعملة واحدة، فالتعبير بالجريمة يعني أنه هناك جزاء مقابل، والتعبير بالجزاء يعني أن هناك جريمة قد وقعت، حيث لا جريمة دون جزاء، ولا جزاء دون وقوع جريمة، من حيث المبدأ. غير أننا نفضل تسمية القانون الجنائي – والدليل على ذلك تسمية المادة التي نحن بصدد دراستها – على تسمية قانون العقوبات، حيث بإمكان التسمية الأولى أن تشمل الشق الإجرائي بالإضافة إلى الشق الموضوعي، في حين أن تسمية قانون العقوبات، في رأينا تشمل الشق الموضوعي فقط دون الشق الإجرائي. وبالتالي يمكننا القول بأن مسألة التسمية تقودنا لدراسة محتوى هذا القانون، وهو موضوع دراستنا في الفرع الموالي.
المطلب الثاني
محتوى القانون الجنائي
يجمع الفقه في عمومه، على أنه لقانون العقوبات نوعين من المحتوى، محتوى قانوني وهو أساس والهدف المباشر لهذا الفرع القانوني، ومحتوى علمي وهو محتوى غير مباشر منه تستمد القواعد القانونية المنظمة لشقي التجريم والعقاب. وهو ما نبينه باختصار في الفرعين التاليتين.
الفرع الأول
المحتوى القانوني للقانون الجنائي
تكمن مهمة قانون العقوبات بالدرجة الأولى، في تبيان الأفعال التي يرى المشرع أنها تضر بالمصلحة العامة وبالنظام العام القائم[8]، ويضع قائمة بها، وهي التي تشكل بذاتها فرعا من فروع القانون الجنائي، ويسمى ب:" القانون الجنائي الخاص"، أو القسم الخاص من القانون الجنائي أو قانون العقوبات، وهي القسم الذي يبين كل جريمة على حدا وما يميزها من أركان وظروف وعناصر، وما يتقرر لها من عقوبات
أو تدابير احترازية أو أمنية. وإلى جانب القواعد السابقة، هناك مجموعة أخرى من القواعد التي تحدد القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القانون الجنائي في مجمله، من أركان عامة للجريمة، وقواعد المسؤولية الجنائية وموانعها، وتصنيف الجرائم، وأسباب الإباحة، وموانع العقاب... وهي مجموعة القواعد التي تشكل فرع من فروع القانون الجنائي، المسمى بالقسم العام، أو القانون الجنائي العام، الذي يعد موضوع دراستنا في هذا البحث. غير أن تطبيق الفرعين السابقين من فروع القانون الجنائي، يقتضي إجراءات معينة بموجبها تتدخل الدولة عن طريق أجهزتها من وقت ارتكاب الجريمة لغاية توقيع العقوبة على مقترفها، وتبين ماهية هذه الأجهزة، وطرق تدخلها وكيفيات ذلك، وهو القسم المسمى بقانون الإجراءات الجزائية[9].
وبالتالي يتحدد المحتوى القانوني للقانون الجنائي، أو قانون العقوبات، بثلاثة فروع قانونية فرعية يتضمنها هذا القانون، وهي القسم العام، أو القانون الجنائي العام[10]، والقانون الجنائي الخاص[11] – المقرر في برنامج السنة الثالثة حقوق إلى جانب علم الإجرام- وقانون الإجراءات الجزائية أو الجنائية[12]، المقرر في السداسي الثاني من السنة الثانية حقوق. وهي أقسام وفروع تتكامل فيما بينها، لتشكل في الأخير الجزء الكبير من السياسة الجنائية والعقابية للدولة، من حيث تبيانها للتجريم وما قرر من عقوبات، والأحكام والمبادئ العامة التي تحكم العمليتين – التجريم والعقاب-، بالإضافة إلى قواعد إجرائية تنقل الشق السابق من حالة السكون إلى حالة الحركة، أو من الحالة النظرية المجردة، إلى الحالة الواقعية العملية. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، يتحدد المضمون القانوني لقانون العقوبات، في كونه وبالإضافة إلى احتواءه لقسم عام وآخر خاص، أنه هناك قوانين عقوبات تكميلية وأخرى خاصة.
فقانون العقوبات التكميلي، يجد علته في كون القسم الخاص من قانون العقوبات لا يتضمن كل الجرائم التي قررها المشرع، فهناك عدد كبير من الجرائم نصت عليها قوانين أخرى مستقلة، مثل قانون المنافسة والأسعار وقانون الصحة والقانون الجمركي ...وهي مجموعة القوانين التي يطلق عليها مصطلح قانون العقوبات التكميلي أو القوانين الملحقة بقانون العقوبات، مما يستتبع بالضرورة خضوعها للأحكام العامة المتضمنة بالقسم العام لقانون العقوبات. ولجوء المشرع إلى هذه الطريقة المتمثلة في التجريم والعقاب بموجب نصوص قانونية مستقلة، يجد أساسه في عدم قدرته على حصر كل الجرائم في موضوع واحد هو قانون العقوبات، خاصة إذا كانت هذه الجرائم تحمي مصالح متغيرة أو طارئة تخضع للتعديل والتغيير كلما دعت الضرورة لذلك، في حين أن قانون العقوبات يتسم بالاستقرار النسبي، لذا فهو يجرم في العادة الأفعال الشائنة والمستهجنة في المجتمع في كل وقت من الأوقات ولا يتدخل إلا في حال تغيرات اقتصادية
أو اجتماعية أو علمية حديثة توجب إلغاء بعض الجرائم أو إدراج البعض الآخر.
وأما قوانين العقوبات الخاصة، فهي حسب الفقه طائفة ثالثة من الجرائم، التي يتم النص عليها في قوانين خاصة، اصطلح على تسميتها بقوانين العقوبات الخاصة، منها قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات الاقتصادي وقانون العقوبات التجاري. وأصبحنا نسمع بقانون العقوبات الإداري وقانون الجنائي الدستوري...، وهي كلها قوانين تحمي مصالح تتميز بطابع خاص يبرر إخضاعها لقواعد قانونية خاصة، سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية الإجرائية، كونها تخضع لبعض الأحكام التي قد تختلف كلية
أو جزئيا عن الأحكام العامة الموضوعية والإجرائية، لكن العلاقة بينهما تظل قائمة ويجب الرجوع للأحكام العامة في كل حالة لم يرد بشأنها نص في هذه القوانين الجنائية الخاصة، تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام. ولتجنب الخلط بين القوانين الجنائية الخاصة والقوانين التكميلية لقانون العقوبات العام، يدرج الفقه الفرقين الأساسيين التاليين:
1- القوانين المكملة لقانون العقوبات، تحمي مصالح من ذات نوع وطبيعة المصالح المحمية بموجب القسم الخاص من قانون العقوبات، مما لا يجيز الخروج بشأنها عن الأحكام العامة المنصوص عليها بالقسم العام لقانون العقوبات، في حين تحمي قوانين العقوبات الخاصة مصالح وحقوق تتميز بطبيعة خاصة تستوجب الخروج نوعا ما ( بصفة كلية أو بصفة جزئية) عن الأحكام العامة لقانون العقوبات سواء في قسمه الموضوعي أو في قسمه الإجرائي .
2- الجرائم المنصوص عليها في قوانين العقوبات التكميلية، تخضع بحسب الأصل للأحكام العامة الواردة بالقسم العام لقانون العقوبات، إلا إذا نص فيها على ما يخالف ذلك، أما قوانين العقوبات الخاصة فتضم أحكامها الموضوعية والإجرائية الخاصة بها، ولا يرجع فيها إلى الأحكام العامة إلا في الحالات التي لا يرد فيها نص خاص.
الفرع الثاني
المحتوى العلمي للقانون الجنائي
حتى يستطيع القانون الجنائي أن يحقق أهدافه على أتم وجه، يجب أن يستعين بالعلوم الحديثة وما تقدمه له من مساعدة مبنية أساسا على معطيات علمية، من أهم هذه العلوم المسماة بالعلوم الجنائية المساعدة، علم التحقيق الجنائي وعلم الإجرام، اللذان يعدان ركائز العلوم الجنائية أو السياسة الجنائية بصفة عامة. وإن كان يستفيد القانون الجنائي أيضا ببعض العلوم الأخرى حتى وإن كانت من طبيعة غير جنائية، كعلم النفس وعلم الاجتماع، والعلوم الاقتصادية وغيرها من العلوم الإنسانية، خاصة وأن الجريمة بدورها ظاهرة إنسانية، فهمها يقتضي فهم السلوك الإنساني ككل، وذلك لا يتسنى إلا بالاستعانة بكل هذه العلوم في رسم السياسة الجنائية. وهو ما نبينه باختصار في النقاط التالية. والتي لا نقصد بها علاقة قانون العقوبات بباقي فروع القانون الأخرى، التي سنتناولها في نقطة مستقلة، وإنما هي علوم متضمنة بطريقة غير مباشرة في إطار هذا القانون ذاته. والمسماة بالعلوم الجنائية نسبة لهذا الفرع القانوني، ويقصد بها تلك العلوم التي تبحث في الجريمة والمجرم، من حيث تحديد أسباب الإجرام وصفات المجرم ووسائل معالجته وتقويمه، وأهداف العقوبة وأغراضها، وبالتالي نقطة الاشتراك بينها وبين القانون الجنائي، هي الاهتمام المشترك بالجريمة والمجرم والعقوبة، والأهم مكافحة الجريمة، وهي المحاور الأساسية للقانون الجنائي وسبب وجوده. غير أن وسيلة القانون الجنائي في مكافحة الجريمة، هي تحديد الأعمال المجرمة وتقدير الجزاء المناسب لها، بينما وسيلة العلوم الجنائية، هي البحث العلمي القائم على الدراسات التجريبية القائمة على الملاحظة واستخلاص النظريات والقوانين العلمية التي تحكمها، والتي تجعل من المشرع الجنائي يضع النصوص القانونية وفق سياسة جنائية معينة التي تعد محصلة النتائج العلمية التي توصلت إليها العلوم الجنائية[13]. وسنبين أهم هذه العلوم في النقاط الثلاث التالية.
أولا: علـــم الإجرام
علم الإجرام، هو العلم الذي يدرس الجريمة كظاهرة اجتماعية، ويتناول بالتحليل والبحث أسباب الجريمة ودوافعها المختلفة، والذي يشمل أيضا ثلاثة فروع من العلوم، هي علم طبائع المجرم، ويتناول بالدراسة أسباب الجريمة الكامنة في تكوين الجاني الخلقي والجسدي، وعلم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يهتم بالبحث في الأسباب النفسية الدافعة لارتكاب الجرائم، وتطور الفكرة الإجرامية في نفسية الجاني، بالإضافة إلى علم الاجتماع الجنائي، وهو العلم الذي يركز على أسباب الجريمة الراجعة إلى المجتمع والظروف الاجتماعية المحيطة بالجاني، بالإضافة إلى علم آخر تفرع عن علم الإجرام، وهو علم الإجرام الإكلينيكي، الذي يركز على دراسة كيفية فحص الجاني جسديا ونفسيا وعقليا، للتعرف على أسباب انحرافه[14]. خاصة وأن علماء الإجرام لهم معاييرهم لاكتشاف تصرفات وسلوكات الأفراد، ودراسة الجريمة دراسة علمية من حيث أسبابها وطرق مكافحتها، ومن هنا كانت العلاقة والاستفادة بين القانون الجنائي وعلم الإجرام علاقة تعاونية أو تبادلية، حيث أن المعطيات الأولية، من تعريف للجريمة، وتقديم المادة البشرية الأساسية موضوع الدراسة والبحث والتحليل، ورسم القيود والحدود التي يتعين على علم الإجرام عدم تعديها في دراسته للمجرم، ومنعهم من التدخل في الشؤون القانونية وخاصة الجنائية[15].
ثانيا: علــــم العقاب
علم العقاب، هو العلم الذي يهتم بدراسة أهداف العقوبة والتدابير وتحديد أغراضها الاجتماعية، ودراسة القواعد والأساليب الكفيلة بتحقيق أغراضها، ودراسة أساليب تقويم الجناة أثناء فترة تنفيذ العقوبة
أو التدبير، كما وهو العلم الذي يعني مجموعة القواعد التي تحدد الأساليب التي تتبع في تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية، حتى تحقق الغرض الذي يستهدفه المجتمع منها، في إطار الفلسفة التي يتبناها ويعمل في إطارها.
ثالثا: علــم (التحقيق الجنائي) البوليس الفني
وهو العلم الذي يهتم بدراسة تحديد الجاني والتعرف على مرتكب الجريمة وكيفية وقوعها، بدءا من دراسة البصمات، وكيفية رفع آثار الجريمة، وفحصها وتحليلها... وهو علم شهد تطورات مذهلة في السنوات الأخيرة[16]، حيث استفاد كثيرا بالتطورات العلمية والتكنولوجية التي وفرتها للبحث الجنائي، سواء فيما يتعلق بدراسة مسرح الجريمة، أو التعرف على الجناة، من وجود لفكرة البصمات الوراثية، والأدلة الإلكترونية والمعلوماتية والبيولوجية...وعلم التحقيق الجنائي يضم في الواقع العديد من التخصصات التي تتعاون في مجملها لأجل اكتشاف الجريمة ومرتكبيها، ففي إطار هذا العلم، هناك " الطب الشرعي" الذي ساعد على اكتشاف أسباب الوفاة مثلا ووقتها، ومدى وقوع الاعتداء من عدمه، وطريقة هذا الاعتداء وما إن كان عن طريق العنف أو غيره، وأي وسيلة كانت سببا في إحداث الجريمة، والتعرف حتى على المجني عليهم والجناة على حد سواء، سيما في ظل استفادة هذا العلم من التطورات العلمية الحاصلة في الثورة البيولوجية والمعلوماتية. كما يوجد " علم السموم" الذي يساعد على التحقق من أن مادة معينة أو مخدر ما كان السبب في حدوث الجريمة، وتحليل المواد المخدرة في جرائم المخدرات، كما يوجد ما يسمى بعلم البصمات[17]، وما يسمى " بالشرطة العلمية" وهي كلها علوم تسهل من مهام رجال البحث والتحري، والقاضي في إصدار حكمه. كما يستعين القانون الجنائي بالكثير من العلوم الأخرى، مثل علم الاجتماع القانوني، الذي يهدف إلى دراسة الواقع الاجتماعي للقانون منذ نشأته مرورا بمختلف مراحل تطوره، وكذا العوامل والظروف المحيطة بإصدار التشريعات العقابية ودراسة آثارها الاجتماعية، والعوامل الاجتماعية التي تؤثر في إصدار القوانين وعمل أجهزة العدالة، وهو بذلك يلعب دورا بارزا في تقديم الحقائق الاجتماعية بطريقة موضوعية للمشرع لكي يصدر بناء عليها قوانينه، مما يكفل علاقة الصلة بين القانون والمجتمع الذي نشأ لتنظيمه، وكذا علم الإحصاء، الذي يعتني بإعطاء حقائق رقمية للمتخصصين في التشريع حتى يكنوا على دراية واقعية بكل ما يتصل بالجريمة والمجرمين، من عدد الجرائم والمجرمين أو دراسة نوعية معينة منهم، ومدى انتشار الجريمة في زمان ما أو مكان ما ... خاصة وأن الدراسات الإحصائية من أفضل السبل للحكم على نجاح السياسة الجنائية.
_________________ ------ ____________
لا تنسونا بالدعاء. بارك الله فيكم
حسين مدية- عدد المساهمات : 1158
تاريخ التسجيل : 28/07/2013
رد: محاضرات في القانون الجنائي العام
ان شاء الله
حسين مدية- عدد المساهمات : 1158
تاريخ التسجيل : 28/07/2013
مواضيع مماثلة
» محاضرات في القانون الجنائي العام
» [ حصرياً ] محاضرات في القانون الجنائي للتحميـل !
» مذكرات في القانون الجنائي
» مبادئ القانون الجنائي
» بعض دروس في مادة القانون الجنائي
» [ حصرياً ] محاضرات في القانون الجنائي للتحميـل !
» مذكرات في القانون الجنائي
» مبادئ القانون الجنائي
» بعض دروس في مادة القانون الجنائي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 03 نوفمبر 2019, 10:41 am من طرف راقية العلم
» حكمة اليوم
الأحد 03 نوفمبر 2019, 10:40 am من طرف راقية العلم
» إلى كل غائب .. وغائبة
الثلاثاء 02 يوليو 2019, 3:39 pm من طرف HALIM32
» اختصـــــــــــــر ما تعــــــــــيشه في عبارة قرأتها من قبـل .
الثلاثاء 25 يونيو 2019, 10:35 am من طرف راقية العلم
» لو صرخت باعلى صوت ماذا تقول؟؟
الثلاثاء 25 يونيو 2019, 9:04 am من طرف HALIM32
» الف مبروك لكل الناجحين .
الجمعة 21 يونيو 2019, 8:22 am من طرف راقية العلم
» مـآذآ تكتب على شآطئ البحر ؟
السبت 08 يونيو 2019, 7:50 pm من طرف راقية العلم
» عيد سعيد لكل أعضاء المنتدى الكرام
السبت 08 يونيو 2019, 6:41 pm من طرف راقية العلم
» رمضان كريم1440
السبت 08 يونيو 2019, 6:36 pm من طرف راقية العلم